(9) الإنسان… بين الدنيا والآخرة
الغموض يلف العلاقة بين الحياة في الدنيا بموتها، كما يلف الغموض في العلاقة بين الموت في الآخرة بحياتها وما بين العلاقتين في الحياتين في الدنيا وفي الآخرة، اللذان يكتنفهما الغموض ويسترهما الإبهام ويغطيهما غطاء كثيف من الأسرار البعيدة عن استيعاب فكر وفهم الإنسان، يتأكد من أن العدم والموت هو الأصل، والحياة وما فيها هي الاستثناء.
قال تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (تبارك: 1- 2).
وبالرغم من هذا الفراغ الهائل في فهم الإنسان لطبيعة الحياة وما فيها، وطبيعة الآخرة الذاهب إليها، فمعنى الدنيا مبهم وغامض ومعنى الآخرة مبهم وغامض، إلا أن العالم على مدار تاريخه منذ آدم عليه السلام يحكمه ويسيطر عليه مجموعة من الغوغائيين والجشعين والمرتزقة والغجر الخارجين عن القانون الإلهي، بالرغم من اعتبار أن آدم وأبناءه وأحفاده خلفاء لله في الأرض، وعليهم تطبيق أوامر الله ونواهيه في حياتهم حتى تستقيم وتتجانس مع الكون وسائر المخلوقات التي تعيش فيه.
فعلى مدار التاريخ الإنساني البعيد والقريب، خرج البشر على هذا القانون الإلهي، فتجرأ أحدهم وادعى كذبًا الألوهية، مثل فرعون مصر.
قال تعالى: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إليٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (القصص: 38).
مع أنه لا يستطيع أن يخدم نفسه إذا تخلت عنه أعضاءه ولا يتحكم في بوله ومخلفاته، قال تعالى: “فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ” (النازعات: 24).
ومنهم من اتخذ مع الله ندًا وشريكًا مثل اليهود والنصارى.
قال تعالى: “وَقَالَتِ إليهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ” (التوبة: 38).
ومنهم من عبد الأصنام مثل قوم إبراهيم عليه السلام والنمرود وغيره من كفار العرب ومشركيهم والذين لهم علاقة بالفراعنة وأصنامهم.
قال تعالى: “أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى” (النجم: 19- 20).
ومنهم من عبد السلطة ومنهم من عبد المال ومنهم من عبد الهوى ومنهم من عبد الجنس، ومنهم من نافق ومنهم من كذب ومنهم من خان ومنهم من سرق ومنهم غدر وفجر ومنهم من قتل، من أجل تحقيق شهوة عاجلة ومتاع زائل في دنيا فانية، فلم يعد لكل هؤلاء أثر ولا وجود في هذه الدنيا الغرور.
قال تعالى: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” (الحديد: 20).
ومع ذلك وبالرغم من كل ذلك، لم يتعظ أحد من البشر من عامة الناس أو خاصتهم، فاللاحقون لم يعتبروا بالسابقين وما حاق بهم وما طالهم من العذاب، أو تعرضوا له من قتل وتدمير ماحق وقضاء مبرم من غضب السماء، بعد كفرهم بالله أو شركهم به أو عبادة الأصنام.
وما زال الإنسان هو الإنسان منذ خلق آدم وحتى الآن، يمارس طقوسه في كل أنواع الظلم والطغيان، وكل ما يشيب من هوله الولدان، من أجل تحقيق مصلحة خاصة، دون حسيب أو رقيب على تصرفاتها وأفعاله سوى ذراته، بل ومثقال ذراته التي تسجل عليه كل شيء بالصوت والصورة والفيديو، ومع ذلك يدعي البحث في مصالح الناس مع أنه شيطان، لأن الناس أعلم بمصالحها من كل شيطان إنسي وجان.
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، فالغموض يلف العلاقة بين الحياة في الدنيا بموتها، كما يلف الغموض في العلاقة بين الموت في الآخرة بحياتها، ويؤكد حقيقة أن العدم والموت هو الأصل، والحياة الاستثناء.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر
تعليق واحد