(11) الإنسان… بين الدنيا والآخرة
يبدو أن فلسفة الحياة الدنيا، مستنبطة من الموت ومبنية عليه، كما أن فلسفة الموت في الحياة الآخرة، مستنبطة من الحياة في الحياة الدنيا ومبنية عليها.
وكلاهما الموت والحياة أو الحياة والموت مصدر للحياة، بالرغم من أنهما في الظاهر علي طرفي نقيض في الوظيفة والتمكين، إلا أن أهمية الحياة للموت تساوى في المكانة والمنزلة أهمية الموت للحياة.
وبالرغم من أن الموت هو الأصل والحياة هي الاستثناء، والدليل على ذلك أن الإنسان، كان عدم قبل أن تخلق فيه الحياة.
قال تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (الملك: 1- 2).
فالموت علامة بارزة في حياة الإنسان قبل أن توجد فيه الحياة، وقبل أن يكون الإنسان موجود في الوجود قبل خلق الإنسان، ثم خلق الإنسان في عالم الذر، داخل ذرة بصورته واسمه ولقبه وكنيته.
قال تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ” (الأعراف: 172).
ومن عالم الذر انتقل الإنسان إلى عالم المشاهدة، بخلق آدم وحواء من تراب خارج الرحم، ثم خلق أبناءه وأحفاده من بعده، داخل الرحم إلى قيام الساعة.
قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” (النساء: 1).
ثم خرج الإنسان في نهاية المطاف من رحلته القصيرة من داخل الرحم الصغير وهو جنين، بعد 6- 9 أشهر، إلى الكون برحمه الكبير وهو في بداية الطفولة ثم ينتقل من مرحلة عمرية إلى مرحلة عمرية أخرى، وفيه يمر بأعماره المختلفة في الحياة الدنيا، والتي سلمته أقداره فيها في نهاية المطاف إلى الحياة إلى الآخرة بين 60-90 سنة.
قال تعالى: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إليٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ” (النحل: 70).
وكأن الشهر الواحد داخل الرحم، الذي يستغرق فيه بناء الإنسان وتكوينه، حتى يصبح إنسان، يساوي عشر سنوات خارجه، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على الجهد المبذول داخل الرحم، والذي يترتب عليه رص الخلايا داخل الرحم، وتكوين الأنسجة والأعضاء والأجهزة، بشكل محكم ومتقن.
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، فالحياة الدنيا تسلم الإنسان المقبل على العالم في الدنيا كما استلمته من عالم الذر على المفتاح إلى العالم في الحياة الآخرة، بشكل متدرج لا تطغوا فيه مراحل الحياة المختلفة على بعضها البعض الآخر، في عالم الذر والمشاهدة والآخرة.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر
تعليق واحد