(13) الإنسان… بين الدنيا والآخرة
الإنسان سقط في الاختبار بعد أن فرط في طاعة الله، فبدلًا من أن يجعل من الحياة الدنيا حياة حقيقية في إطار التسيير مثل حقيقة الحياة في الآخرة، حول الحياة الدنيا إلى تمثيلية، بعد أن ترك زمامه نفسه وأمره إلى نفسه الأمارة بالسوء وهواه، وسلم مفاتيح نفسه تسليم مفتاح إلى الشيطان وأتباعه من الإنس والجن، الذين زينوا له الحياة الدنيا، فخرب حياته في الدنيا وخرب حياته في الآخرة.
قال تعالى: “مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (الجمعة: 5).
فعلماء اليهود وخاصتهم، لم ينتفعوا بالعلم الموجود في التوراة، فما بالك بعامتهم فكانوا كمثل الحمار الذي يحمل على ظهره الكتب المليئة بالعلم والمعرفة والتي ترشده إلى طريق النجاة والفلاح ولكنه لم يستفد منها، ولا يكون له منها إلا العناء والنصب والتعب، وما ينطبق على اليهود ينطبق على النصارى في التوراة، وينطبق على المسلمين في القرآن، الذين لم يطبقوا ما جاء به من قوانين وحدود تحمي مصالح الناس وتأخذ بأيديهم إلى تطبيق أوامر الله ونواهيه.
وبالرغم من أن الكون مخلوق على العلم والمعرفة، في نطاق من الإبداع والخبرة وروعة البناء والقدرة المطلقة وغير المسبوقة، فإنه كان من الضروري وبنفس المقدار وعلى نفس المستوى و التحدي أن يكون الإنسان على دراية بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، في إدارة شؤون حياته وفي إنجاح عمله وتجويد إنتاجه على مستواه الشخصي وعلى مستوى وطنه وعلى مستوى العالم، حتى يتسنى له أن يكون على مستوى خلق الكون وما فيه من إبداعات علمية وتقنية ولو بشكل نسبي.
ولكن كل الذي حصل أن الإنسان أفسد الكون وما فيه بأنانيته وانتهازيته والجري وراء مصالحه الخاصة، مع إهمال متعمد لمصالح الآخرين، لضيق عقله وقصر فهمه وقلة علمه وجهله، بالرغم من رسالة الأنبياء والمرسلين التي كان هدفها قيادة الإنسان إلى طريق الله المستقيم في الصلاح والفلاح، من أجل أن يحافظ الإنسان على مكتسباته في الحياة والتي يأتي على رأسها وجوده في الحياة.
فكانت البداية، التي أدت إلى انحراف الإنسان وطغيانه وخروجه عن سلوك الطريق المستقيم، عصيان أوامر الأنبياء والمرسلين، وظهر هذا واضح وجلي في خروج قابيل على تعاليم أبيه آدم بصفته أول نبي مرسل، والتي أعطي فيها قابيل الحق لنفسه في قتل أخيه هابيل، من أجل المتعة المؤقتة والحياة الزائفة، بعد أن لعب به هواه والشيطان كما لعب بآدم من قبل، فكان سبب خروجه من جنة التجربة.
ثم تطوَّر الأمر مع مرور الزمان واتساع المكان، في صعود بشر غير مؤهلين في قيادة البشرية، فوضعوا أنفسهم في سدة السلطة ونسبوها إلى أنفسهم، التي وصلوا إليها من الأبواب الخلفية بالغش والخداع، من أجل قيادة الناس من خلال معادلة الولوج إلى السلطة والحكم مقابل استخدام العنف والقوة والقتل الممنهج ضد كل من يعارضهم في السلطة، من أجل السلطة والمال والنساء، والتي كان من آثارها الجانبية إفساد المجتمعات وتدمير حياة الناس، على امتداد التاريخ الماضي وفي الحاضر، من أجل الحفاظ على السلطة والمال إلى حين.
فدارت الدنيا دورتها، منذ خلق آدم وحتى القرن الحادي والعشرين، فقامت فيه دول وصنعت فيها أمم وحضارات الواحدة تلو الأخرى، وحكمها ملوك وسلاطين وخلفاء وأمراء من كل الأشكال والألوان والأعراق والأجناس وانتشر الظلم بين الناس وكلما طغى الظلم على الحق انهارت الحضارة، لتحل محلها أخرى دون عبرة أو عظة من الذي فات ومضى ومن الذي هو آت.
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، فالحقيقة الواحدة الباقية، هي في أن الدنيا هي الفانية والآخرة هي الباقية.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر
3 تعليقات