(67) مصر… في الحج
كل هذه الصفات التي ذكرت في الآيات القرآنية من الإحسان وأنه من الأخيار والبلاء المبين، تؤكد أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وهذا يؤكد أن البلاء كان كبير، والإيلام كان شديد لإبراهيم عليه السلام لأنه همّ بذبح ابنه البكر، فكان الذبح عظيم لأن الله سبحانه وتعالى شهده ومعه جبريل عليه السلام، في وجود إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، قال تعالى: “وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَإلىسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ” (ص: 48).
بعدها تتابعت الآيات القرآنية التي تشيد بموقف إبراهيم وإسماعيل ومعهما هاجر عليهم السلام من قضية الذبح، قال تعالى: “وَتَرَكْنَا عليه فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ” (الصافات: 108- 111).
انتهاء الحديث عن قضية الذبح
إلى هنا انتهي الحديث عن قضية الذبح، والتي كان فيها الذبيح إسماعيل عليه السلام، وما كان فيها من مشاهد وأحداث، أكدت أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، ثم انتقل القرآن الكريم، مباشرة بعد نهاية قضية الذبح في الحديث عن الهبة والعطاء الذي أعطاه الله لإبراهيم نظير صبره على ذبح ابنه إسماعيل، قال تعالى: “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ” (الأنبياء: 72).
وهذا تتابع في العطاء وزيادة في الفضل من الله، فقبل أن يأخذ كل من إبراهيم وسارة عليهما السلام بأسباب الإنجاب، فيحصل الحمل، أخبر الله إبراهيم عليه السلام، بأنه سوف ينجب ولد ذكر اسمه إسحاق عليه السلام وإسحاق عليه السلام، سوف ينجب ولد ذكر اسمه يعقوب عليه السلام، فأخبره بالابن الثاني له وسماه الله إسحاق، ثم أخبره بيعقوب ابن إسحاق وسماه يعقوب وكل هذا وإبراهيم ما زال في مكة ولم يغادرها إلى فلسطين.
كانت الهبة والعطاء سبب البشارة الثانية، التي بشر الله بها إبراهيم عليه السلام، نظير صبره على ذبح ابنه البكر إسماعيل عليه السلام، وهي البشارة بإسحاق عليه السلام، قال تعالى: “وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عليه وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ” (الصافات: 112- 113).
الذبيح هو إسماعيل
وهذا يؤكد أن عملية الذبح، التي حدثت لإسماعيل عليه السلام، قد تمت قبل ولادة إسحاق عليه السلام بثلاثة عشر عامًا، وبعدها رزق إبراهيم بإسحاق عليه السلام وعمره أكثر من مائة عام، ولم يتطرق الله سبحانه وتعالى، في كل الآيات التي تحدث فيها عن اسحاق عليه السلام إلى قضية الصبر، ولا إلى قضية الصدق بالوعد، كما أن صفة المحسنين صفة لازمة لإسماعيل عليه السلام.
وما بين البشرتين الغلام الحليم في إسماعيل عليه السلام، والغلام العليم في إسحاق عليه السلام، كانت السعادة الغامرة التي غمرت إبراهيم وهاجر عليهما السلام، لنجاة إسماعيل عليه السلام من الذبح، وكانت السعادة غامرة لإبراهيم عليه السلام، عندما أخبر بالبشرى بإسحاق عليه السلام في مكة بعد قضية الذبح فعلم بها إبراهيم وهاجر وإسماعيل، قبل ذهابه إلى فلسطين.
وعندما عاد إبراهيم إلى فلسطين بشرته الملائكة مرة أخرى بالغلام العليم، وهو إسحاق عليه السلام في وجود إبراهيم وسارة عليهما السلام، وكانت السعادة الغامرة لإبراهيم وسارة عليهما السلام، والتي تعجبت من هذا الخبر لأن عمرها كان يتجاوز 91 سنة، وأخبرت بهذا الخبر قبل أن تكون هناك علاقة مع إبراهيم عليه السلام.
قال تعالى: “فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ علىمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعليمُ” (الذاريات: 28- 30).
فكانت البشرة في الجلد الرابط بين البشارتين، في إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، والجين الوراثي الذي يربطهما بإبراهيم عليه السلام، فكان إسماعيل هو الغلام الحليم، وفيه تجسيد لكل معاني الصبر التي أهلته على تحمل خبر ذبح أبيه له بالرغم من حبه الشديد لأبيه وحب أبيه له، وفيه معنى المصابرة والرباط.
أما الغلام العليم، فكان إسحاق عليه السلام الذي وهبه الله العلم والحكمة، فتبدت وظهرت في يعقوب ويوسف وأسباط بني إسرائيل، وهو ما أكده يوسف عليه السلام، قال تعالى: “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (يوسف: 101).
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، فما بين البشارتين، كان الغلام الحليم إسماعيل عليه السلام، والغلام العليم إسحاق عليه السلام، وكلا البشارتين بشر بهما إبراهيم عليه السلام، وهو بعيد عن زوجتيه هاجر وسارة عليهما السلام، وكل هذا يؤكد أن الذبيح كان إسماعيل عليه السلام والذي كان سببًا في منح الله إبراهيم وسارة عليهما السلام، كلا من إسحاق ويعقوب عليهما السلام، نافلة وزيادة من العطاء الإلهي.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر