(29) مصر… في الحج
هل جمع اليهود للمال يؤمِّن لهم الحاضر ويحمي لهم المستقبل، بالرغم من أنه لم يؤمن لهم الماضي في شخص قارون، فخسف الله به وبماله الأرض وكانت هذه النهاية وما زالت حاضرة، بعد أن سجلها القرآن الكريم بحروف من نور.
قال تعالى: “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ” (القصص: 81).
كان قارون من علماء بني إسرائيل والحافظين للتوراة وكان يعيش في قصره بمدينة الفيوم، بمصر، وما زالت آثاره باقية حتى اليوم، لم يسمع نصيحة المؤمنين من قومه من بني إسرائيل، بال يفرح بكثرة المال وجمعه وأن يبتغي الآخرة ولا ينسي نصيبه من الدنيا، وألَّا يكون سببًا في الفساد في الأرض.
قال تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلىكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص: 77).
علو واستكبار قارون
فكان رده غريب وعجيب، يتسم بالعلو والاستكبار والخيرية، مثل غيره من اللصوص على مر الزمان، مع أنه عالم من علماء بني إسرائيل، إلَّا أنه ادعى أنه أوتي هذا المال بعلمه وحب الله له، فجاءه تحذير شديد اللهجة من الله بالهلاك كما أهلك من كان قبلة، الذين ملكوا القوة وجمعوا المال.
وهذا مصير المجرمين في كل الأزمان، قال تعالى: “قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ” (القصص: 78).
اغتر قارون بماله على قومه وما عنده من نعيم وما يملكه من زينة، ففتن به الضعفاء والفقراء، وتمنوا أن يكونوا مثله ومكانه، فيملكون المال الوفير، قال تعالى: “فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” (القصص: 79).
جمع اليهود للمال
ولكن كان هناك صوت للعقل من الطرف الآخر من العلم والعلماء، رمانة الميزان في المجتمعات، فنبهوا الفقراء وعابوا على الضعفاء الذين تمنوا أن يكونوا مثل قارون، أن ثواب الآخرة خير لهم وأبقى من جمع المال، قال تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ” (القصص: 80).
وبين الطرفين العلم والجهل، كانت النهاية المأساوية التي لحقت بقارون وماله وداره الذي خسف الله به الأرض على روؤس الأشهاد، فأصبح في عداد الهالكين بعدها رجعت عقول الفقراء السكارى بمال قارون من غفوتها وغفلتها، فعادت سريعًا إلى رشدها وأدركوا أن العطاء والمنع من الله، ولولا رحمته لخسف بهم، كما خسف بقارون وهلك ومات كافرًا، لم ينفعه ماله ولا زينته.
قال تعالى: “وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ علىنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ” (القصص: 82).
أكذوبة تأمين المال في الحاضر والمستقبل
وأصبح قارون نموذج صارخ للطغيان في جمع المال وكنزه، فكان سببًا في هلاكه وهلاك نظرائه وأقرانه على مر الزمان، الذين لم يعملوا حساب لآخراتهم الدائمة، كما عملوا لدنياهم المؤقته الفانية.
قال تعالى: “تِلْكَ الدَّارُ الآخرةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (القصص: 83).
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، فبالرغم مما حدث مع قارون وماله وداره، إلا أن نموذجه الصارخ ما زال يتكرر على مر الزمان مع اليهود وغيرهم إلى قيام الساعة، دون أن تكون هناك عبرة أو عظة.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر