(42) مصر… في الحج
مع هجرة الإنسان تهاجر معه كلماته وتصرفاته وأفعاله في مساراتها المختلفة بعمر الإنسان من الولادة إلى الوفاة، وكأن الكلمة هي الحياة وفيها البقاء ومنها الفناء، وهي تنتقل من عمر إلى آخر مع عمر الإنسان، بمواصفات العمر وثقافة المعمر، وتتمدد معه في الحياة بطولها وعرضها وفي كل الأنحاء، فتملأ الأرض وتملأ السماء.
والكلمة تتكوَّن من حروف تحمل في كيانها طاقة المتكلم وتبرز طاقة المستمع وبينهما القارئ والمتلقي، ولولا وجود الطاقة في الإنسان وتحررها مع الكلمات، ما خرجت الكلمة من على طرف اللسان وما نطقت بها الأفواه، وما اندفعت مخترقة الأرض فتهيج الذرع، ومنطلقة إلى السماء فتسقط الماء وهي حروف في كلمات.
الكلمة تكثل طاقة الإنسان المخزونة في جسده
وتمثل الكلمة طاقة الإنسان المخزونة في جسده والمحبوسة في ذراته، من البروتين والنشويات والدهون والأملاح المعدنية والفيامينات وغيرها من سائر المركبات مثل الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين، وغيرها من المواد المنتشرة في الكون والغازات، التي تتصل ببعضها البعض الآخر، فالكون والإنسان وحدة واحدة، ووجود واحد له بداية وله نهاية في علم خالق الأرض والسماوات وخالق الإنسان.
وفي مركز وجود الكلمة تقبع الروح، التي تدير كل شيء من وراء ستارة، وإذا كان هناك مخزون ضخم من الطاقة دخل الجسد المادي الإنسان، الذي يتحوَّل إلى طاقة ثم تتحوَّل الطاقة إلى جسد مادي في سلسلة متصلة الحلقات، فما بالك بالروح ذلك الكيان النوراني الخفي، الذي يحمل سر الله والذي يدير الجسد من الألف إلى الياء.
ووجود الطاقة يحفظ الكون ويمنعه من الانهيار، فالإنسان الذي يزن جسده مائة كيلو جرام به مائة تريليون خلية، متوسط حجم الخلية الواحدة 50 ميكروميتر يعني واحد من مليون من الميتر، تنتج طاقة كل ثانية بمعدل مليار وات طاقة تضيء مدينة مثل القاهرة، وتنتج كل 24 ساعة 86 تريليون وأربعمائة مليار وات طاقة فكم ينتج الجسم؟، إذا كان ذلك إنتاج خلية واحدة وكم تنتج الروح؟
وخروج الكلمة على طرف اللسان وفي الوجه والذات والجنان والروح، يحمل كل هذه الطاقة الضخمة والهائلة، التي تدير الأرض فتخصبها وتدور الماء في السماء فتسقطه وكل هذا يحدث في دائرة مغلقة في وجه البشر ومبهمة، تؤكد عظمة ومكانة الكلمة في حياة البشر، التي لولاها ما وجد البشر، فهي تمثل أحد الأعمدة السبعة التي بني عليها الكون بما فيه من مخلوقات.
الكلمة هي الحياة
والكلمة أطول عمرًا من صاحبها، الذي يترك الحياة بالموت بعد أن تركت بصمات كلماته، في داخل نفسه وفي كل من حوله من سمعه والقارئ والمتلقي، ثم تترك آثارها في الهواء وتدور حول الكرة الأرضية والسماء، فتخزن في ملفات، ثم تذهب طاقة بأحرفها، إلى الأرض فتخصب التربة، وتذهب أحرفها إلى السماء فتنزل ماء يسقي التربة فتخرج الأشجار واحدة بعد الأخرى بالمليارات إلى قيام الساعة بالرغم من ترك صاحبها للحياة.
قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” (إبراهيم: 24- 25).
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، فالكلمة لها مسارات مختلفة في الدنيا بعد ترك صاحبها وعمره، فتبقى ويختفي وتظل قائمة بخيرها وشرها إلى قيام الساعة.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر