(54) مصر… في الحج
عاشت هاجر وابنها إسماعيل في كنف الصفا والمروة وبجوار بئر زمزم، مع قبيلة جرهوم المصرية إلى أن بلغ إسماعيل سن الرشد والبلوغ، فكان عمره 13 عامًا، فقد كان ابنه البكر.
قال تعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسماعيل وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ” (إبراهيم: 39).
كان إبراهيم الذي يعيش في فلسطين مع سارة يتردد بين الحين والآخر، ويزور هاجر عليها السلام، وهذا يؤكد القدرات التي تتميز بها المرأة المصرية على تحمل الصعاب والمسئوليات الجسام والصبر والمثابرة والإخلاص والصدق والأمانة في تحقيق أمر الله وصبرها على رعاية ابنها وبعد زوجها عنها، حتى ولو كان مع زوجة أخرى مثلة حالة إبراهيم عليه السلام.
كان إسماعيل الابن الكبير لإبراهيم عليهما السلام، وقليلًا ما كان إبراهيم عليه السلام يتردد على هاجر وإسماعيل عليهما السلام في مكة، بعد موافقته على وجود قبيلة جرهم وعيشها معهما بعد تفجر ماء زمزم، لكن دفعته الرؤيا التي رآها في المنام بذبح إسماعيل إلى المجيء إلى مكة مسرعًا، لأن رؤيا الأنبياء حق.
قال تعالى: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات: 102).
حياة هاجر إسماعيل كنف الصفا والمروة
كان الاختبار الثاني بذبح إسماعيل في حياة إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام، أصعب وأشق من الاختبار الأول الذي تركهما فيه إبراهيم في مكة، وبمجرد النجاح في الاختبار الأول، يأتي الاختبار الثاني، الذي فيه يقوم إبراهيم بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، فالذبح محقق والموت واقع لا محالة، هذه المرة ولكنه على يد أبيه إبراهيم وبموافقة من هاجر وإسماعيل عليهم السلام.
فكان ما بين الموقفين والاختبارين الأول والثاني فرق شاسع وكبير، فلم يكن الموت محقق في الموقف الأول لكل من هاجر وإسماعيل عليهما السلام عندما تركا وحيدين في مكة، ولكنهما كانا في خطر شديد من نقص في الغذاء والماء، وكانت الظروف المحيطة بهما خارجة عن إرادتهما ولم يكونا لهما فيها دخل.
أمَّا في الموقف الثاني فكان شديدًا على الأسرة، فالأب يؤمر بذبح ابنه الوحيد ويوافق الابن والأم بلا تردد ولا خوف، بل الإسراع في تنفيذ أمر الله.
فشرع إبراهيم عليه السلام في الإعداد النفسي لزوجته وابنه وتطويع إرادتهما، ليقوم بذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه السلام، والذي أنجبه بعد طول انتظار ولم يكن عنده أمل في إنجاب غيره، خاصة أنه في آخر حياته وعمره 86 عامًا، ولكن يأتي إبراهيم مسرعًا، كي يفصح عن هذا الخبر لهاجر وإسماعيل عليهم السلام.
فهاجر التي تعبت في تربية إسماعيل ابنها الوحيد على مدار ثلاثة عشرة سنة، وإبراهيم قد اقترب عمره من المائة عام، ولم يكن عنده أمل في الإنجاب مرة أخرى، يأتي لذبح إسماعيل ولكن كان طاعة إسماعيل لأبيه إبراهيم لا توصف، حتى في تنفيذ أمر الذبح.
الصدق والامتثال لأمر الله في قصة هاجر وابنها
طلب إسماعيل بتغطية وجهه فأضجعه إبراهيم على وجهه على الأرض وأخذ السكين ووضعها على رقبته ورفع إبراهيم رأسه إلى السماء طالبًا العون من الله في ذبح ابنه الوحيد، فأظهر صدقهما في الامتثال والتسليم لأمر الله.
قال تعالى: “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبراهيم (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عليه فِي الأخرىنَ (108) سَلامٌ عَلَى إبراهيم (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ” (الصافات: 103- 111).
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، ومعجزة تحدث مرة واحدة مع الثلاثي المؤمن إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام، فامتثل الأب لأمر الله في ذبح ابنه الوحيد وتبعته الأم واستسلم الابن لأمر أبيه، مع أنها رؤيا منامية.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر