(53) قيم… رمضانية
كل هذه العوامل السابقة والتي نسعى إلى تحقيقها في بناء الأمة ونهضتها، والتي تعتمد على إيجاد منتج حضاري مميز يعتمد على العلم والمعرفة في وجود القيم والأخلاق والمبادئ، بعد إيجاد تعليم متطور يعتمد على فرد مؤهل ماديًّا ومعنويًّا، يذهب بنا إلى خصلة وفضيلة عظيمة أطرها الإسلام في نفوس أتباعه وضرب لنا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة أعظم وأروع الأمثلة من خلال نماذج واقعية وحية على أرض الواقع.
فالإيثار والتضحية من أفرادها تضمن لهذه الأمة بقاءها وعزها ومجدها، من خلال سعي أفرادها بعملهم الدئوب إلى تقدمها وازدهارها وحل مشاكلها في سنوات قليلة لا تعد على أصابع اليد الواحدة، مما يستدعي معه توافر كل أسباب النصر في الإرادة والعزيمة والإصرار والصبر والمصابرة والرباط، في وجود الإيمان الممزوج بالوطنية والإيثار والتضحية .
وعندما نصل إلى هذه المرتبة السامية من الإيثار والتضحية فإنه يمكن تقسيمها إلى مراحل متتابعة، فالمرحلة الأولى تشمل الآباء والأمهات والتي تقتضي منًّا، أن نعتبر أن كل واحد منا يعتبر نفسه مثل الآخر، فأنا أنت وأنت أنا وهو هم وهم هو وهي هن وهن هي وأنا نحن ونحن أنا وهكذا..
عوامل تساعد على بناء الأمة ونهضتها
وأما المرحلة الثانية، من الإيثار والتضحية، فتنتقل من الآباء إلى الأبناء، فما أحصل عليه ماديًّا ومعنويًّا، من أجل أن إنفاقه على أبنائي، كأنما حصلت عليه أنت ماديًّا ومعنويًّا لتنفقه على أبنائك، لأن ما أنفقه على ابني من مال هو من جنس ما تنفقه على ابنك من مال، لأن ابني هو ابنك، وابنك هو ابني، ولذلك لست في حاجة إلى أخذ مالك لأنفقه على ابني مع أنه مالك.
وأمَّا المرحلة الثالثة من الإيثار والتضحية فتصل إلى أعلى مراحله، والتي يؤثر الإنسان فيها على نفسه بكل ما يملك ولو كان في أشد الحاجة إليه هو وأسرته، لآخر هو وأسرته حتى ولم يكن في حاجة إليه، وهذا يصل بنا إلى مستوى من الرقي القيمي والكمال الأخلاقي إلى الحد الذي يجعلنا جميعًا واحد في الكل والكل في واحد، كما حدث مع المهاجرين والأنصار مصداقًا لقوله تعالى: “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إليهمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (الحشر: 9).
أهمية الإيثار والتضحية من أجل الآخرين
وهذا معناه أيضًا أنه كلما زاد منحنى الإيثار والتضحية بيننا، كلما تقدمنا في شتى المجالات القيمية والعلمية، مما يجعلنا ليس نموذج لأنفسنا فقط وإنما نموذج يحذو به العالم حذونا، وبدلًا من أن نكون تابعين نصبح متبوعين بعد أن تخلصنا من ذواتنا من أجل هويتنا وانتمائنا.
وهذا سوف يقوي ويدعم عوامل نهضة أمتنا ويمدها بمدد لا ينتهي وبمعين لا ينضب من العلم والمعرفة والقيم والأخلاق والمبادئ، التي أكدها إسلامنا فنعيش جميعًا في أمن وأمان وسلام مع أنفسنا ومع جيراننا ومع الإنسانية جمعاء، مما يعضد من أمن وسلام العالم.
وكل هذا لن ينسينا آخرتنا فنحن نعمل كل هذا من أجل نجاحنا في الدنيا الذي هو بكل تأكيد نجاح في الآخرة، لأن الراحة الدنيوية تعيننا على طاعة ربنا وتقوي من عزائمنا وتحول عملنا من عادة إلى عبادة وتقربنا إلى الله الواحد القهار طمعًا في رحمته والبقاء في جواره في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للطائعين الأبرار.
ضرورة التعلم من منهج القرآن والنبوبة
وهذه القيمة الرمضانية العظيمة الثالثة والخمسون والتي يجب علينا أن نتعلمها، من منهج القرآن الكريم ومنهج النبوة، وأفصح لنا فيها رمضان في الدائرة الثانية في الدنيا والتي تؤكد أهمية الإيثار والتضحية في بناء الأمة وإخراجها من محنتها المستعصية والمتمثلة في الأنانية والانتهازية.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر