(77) مصر… في الحج
إذا كان الإنسان مخيرًا، فإنَّ هذا الاختيار محدود يتعلق بلسانه لا بكيانه المسير في نطاق التسيير ولولا ذلك ما عاش الإنسان لحظة في حياته، لذلك كانت أركان الحج ومناسكه، تعبدية فإذا أمر الله الإنسان بالطواف طاف، وإذا أمره بالسعي بين الصفا والمروة سعى، واذا أمره بتحية الحجر الأسود حياه وإذا أمره بالصلاة عند مقام إبراهيم وفي حجر إسماعيل صلى، وإذا أمره برمي الجمرات رمى وكلها أمور تعبدية ليس للإنسان فيها ناقة ولا جمل.
وهذه الأحجار التي تتم بها مناسك الحج وأركانه هي مناسك تعبدية، والتي تبدأ بالسعي بين حجرين في الصفا والمروة، وشرب ماء زمزم من بين حجرين، والطواف حول الكعبة من حجارة والصلاة في مقام إبراهيم وهو حجر، والصلاة في حجر إسماعيل من الحجارة، ورمي الجمرات، سبعين حصاة في جمرة العقبة الكبرى والمتوسطة والصغرى وكلها من الحجارة.
نطاق التسيير للإنسان.. الاختيار محدود يتعلق بلسانه
ومن هذا المنطلق يدعي البعض، أن فريضة الحج تدور حول الحجارة، ويقولون إن الحجاج يقومون بالفعل وعكسه، ويعتقدون أن المسلمين مهووسين بعبادة الحجارة، فلماذا يتحدثون عن كل هذا التضارب، الذي يحدث في شعيرة من شعائر الإسلام، وخفي عن هذا البعض أن كل هذه الأعمال التعبدية متعلقة بأوامر الله ونواهيه التي استعرضتها في مصر والحج.
ونسي الإنسان، الذي يتطاول على الحجر، أنه مخلوق من ذرة من التراب مثل الحجر، ولكن الحجر أكرم منه عند الله، فالكثير من البشر الذين كرمهم الله، قلوبهم أشد وأقسى وأصلب وأقوى من الحجر لا فائدة فيهم ولا قيمة مرجوة منهم، بالرغم من أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، فيسقي الإنسان ويشرب منه الحيوانات والنباتات وسائر المخلوقات ويعم الخير على الجميع، فيبعث الحياة في كل شيء حوله على عكس الإنسان.
مزايا الحجارة بالنسبة للإنسان
كما أن من الحجارة ما يتشقق فيخرج منه الماء، والذي يمثل نبع الحياة للقلوب القاسية من البشر، بل وتعدى ذلك إلى الخوف والخشية من الله سبحانه وتعالى، فالحجارة منها الأنهار ومنها الينابيع وفيها الخشية من الله وهي صفات قلما تجدها في الإنسان.
فشتان بين الجبال، التي قبلت أن تكون كما أراد الله لها فكانت مسيرة بأمر الله والإنسان الذي أراد أن يعيش طبقًا لغرائزه وهواه بعيدًا عن إرادة الله فكان مخيرًا وما بين التسيير والتخيير تظهر مكانة المسير عند ربه ومكانة المخير، فمن الأعقل في الاختيار: المسير في الجبال أم المخير في الإنسان؟ بالطبع الجبال .
كما أن الجبال لها فضل كبير في حماية البشر بشكل عام، وحماية الأنبياء والمرسلين بشكل خاص في فيضان نوح عليه السلام، كانت السفينة تجري في موج كالجبال، والذي أنقذ موسى عليه السلام حجر في بئر في مدين وماء في بحر كالجبال في البحر الأحمر، والذي أنقذ محمد صلى الله عليه وسلم، حجر في غار حراء وحجر في غار ثور.
وكان للحجارة دور تأديب الطغاة والظالمين، وفي القضاء على المستبدين على مر الزمان، فقضت على قوم نوح في ماء كالجبال، وقضت على قوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط في حجارة من سجيل ومعهم أبرهة الحبشي، وقضت على قوم فرعون بالغرق في جبال من ماء، والذي قتل أبو جهل وقتل أبو لهب في بدر حجر.
الحجارة هي الأكثر فهمًا لقدرة الله
ومن ثمَّ فإن الحجارة هي الأعقل والأكثر فهمًا عن الله، لأن الذي رضي بأن يكون مسيرًا، يعرف حقيقة الكون والحياة، ويفهم الكثير عن مرادات الله في الخلق، أمَّا المخير وهو الإنسان بفكره المحدود وعقله الصغير فلا يعرف شيء عن نفسه، التي بين جانبية فهل يعرف شيء عما يدور في الكون من حوله، وقلبه أقسى من الحجر.
قال تعالى: “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (البقرة: 74).
وهذا فيه إعجاز هائل وعظيم، يؤكد أن الحجارة أعقل من الإنسان وأعبد لله منه.
الدكتور عبدالخالق حسن يونس، أستاذ الجلدية والتناسلية والذكورة بكلية الطب بجامعة الأزهر